نادية لطفى.. حينما يختزل الله العالم فى عَينَىْ أنثى
على حرف من الكمال دشّن الله العالم، فكانت دائريّته آية التمام والاكتمال، وعلامة الفصل والاتّصال فى الآن ذاته، ووفق إيقاع الخلق والتأسيس جئنا، وفى فلك كنّا – وسنظلّ إلى آماد ومآلات شتّى – نسبح على المحيط، ونتضرّع إلى المركز، بينما على هامش الصيرورة وفى ركن من وعى العالم بناسه وفوضاه، هناك من عبروا رحلة البحث وقفزوا مدارات التيه، وهناك أيضًا من توحّدوا مع كمال الدائرة وانغلاقها، فكانوا مركزًا للمركز، وبُعدًا عميقًا يختزل ويختزن رحابة الكون وموسيقاه وإيقاعاته، وفى هذا المقام ليس عليك إلا أن تطلق عينيك – بنظرة مؤمنةً مُتجرِّدة وساعية إلى وجه الله والحُسن على بصيرة من الشوق والتوق والتصوّف – فى عينى نادية لطفى، لتعرف أن مركز الدائرة أقرب إليك من حبل الوريد.
بوجه مصقول كمنحوتة من الكريستال اللامع الوضّاء، وبملامح وقور وحَسِنة التجاور والائتلاف، أحسنت بولا محمد لطفى شفيق – وأحسن الصانع وخازن الأسرار – استقبال العينين المنذورتين لحراسة سرّ الكون والحنوّ على متاهته الحريرية الناعمة، ليكون الجوار مضبوطًا على إيقاع رائق ومُصفّى ملؤه الهدوء والدّعة، بما يترك فسحة النظر وطاقة التأمل للغوص فى المحجرين ناعمى الاستدارة، والحانيين على حجرين كريمين ناصعى البياض، يخالجهما بؤبؤان ساحران كأنهما نافذتان على صندوق الدنيا، أو على شاشة سينمائية تحمل ذاكرة الصور من الخلق إلى البعث.
الفتاة المولودة فى الثالث من يناير عام 1938 لأب من صعيد مصر وأم بولندية الأصل، والتى تربّت فى مدارس ألمانية ومارست الرسم والكتابة كهوايتين لطيفتين لفتاة أرستقراطية الطابع، بعد أن ناوشت التمثيل فى صغرها عبر عرض مسرحى مدرسى لم تسعفها الذاكرة لحفظ حواره، فكان طلاقًا بائنًا – أو هكذا ظنّت وقتها – بينها وبين هذا النوع من الإبداع والهوايات، لم تكن تلك الفتاة تعلم أن الطريق مرسومة وفق منطق وإيقاع مغايرين، ليكون الاكتشاف الكبير عفو الخاطر وبالمصادفة البحتة، فى مناسبة عائلية لم يكن مخطَّطًا لها أن تكون بابًا للوجه الملائكى الجميل على عالم الفن السابع، ولكن العين الفاحصة للمنتج رمسيس نجيب تاهت فى مدارات وأفلاك عينى نادية لطفى، فكان الوقوف الأول لها أمام كاميرات السينما فى بطولة كبيرة ومهمة فى فيلم “سلطان” أمام النجم فريد شوقى عام 1958، بينما حملت الدراما منذ بدايتها أبعادًا تليق بفنانة وُلِدت نجمة، وذلك حينما خلع عليها رمسيس نجيب اسم بطلة رواية “لا أنام” للكاتب الكبير إحسان عبد القدوس، هروبًا من صعوبة اسمها الأصلى، فكان أن اعترض عبد القدوس وأقام دعوى قضائية ضد الفنانة والمنتج مطالبًا بحقّه الأدبى عن استغلال الاسم.
منذ انطلاقتها، مثّلت نادية لطفى حجر زاوية مهمًّا فى صناعة السينما والفن فى خمسينيات وستينيات القرن الماضى، فكانت قاسمًا مشتركًا فى عشرات الأفلام اللامعة، بينما على الجانب الآخر من الإبداع، كانت حياتها حلقات متتابعة من التوتر والانكسارات الاجتماعية، فتزوّجت ثلاث مرّات انتهت كلّها بالفشل، وأنجبت ابنًا وحيدًا من زيجتها الأولى، وربما أمام هذه اللمسة الميلودرامية لحياتها الشخصية كان الحل فى توزيع الاهتمامات وخلق فضاءات أكثر اتّساعًا ورحابة وإنجازًا، فكانت الفنانة النجمة متطوّعة دائمة فى المستشفيات والجمعيات الصحية، وخلال حربى يونيو 1967 وأكتوبر 1973 كانت مقيمة تقريبًا فى مستشفى قصر العينى، كما أقامت مع المقاومة الفلسطينية لمدة أسبوعين فى الجنوب اللبنانى إبان اجتياح الجيش الإسرائيلى له فى يونيو 1982، وعُرِفت بنشاطها الكبير والدؤوب مع جمعيات الرفق بالحيوان فى ثمانينيات القرن المنصرم أيضًا، وباهتمامها بالتصوير والتوثيق والأفلام التسجيلية، فأنتجت عشرات الساعات من المواد التسجيلية فى لبنان وفى قرى ونجوع مصر ومع أسرى حربى يونيو وأكتوبر.
كان الظهور السينمائى الأول لنادية لطفى عام 1958، بينما اختارت بشكل طوعى أن تغلق صفحة السينما بظهورها الأخير فى فيلم “الأب الشرعى” عام 1988، قبل أن تعتزل العمل الفنى بشكل كامل بعد مسلسلها الوحيد “ناس ولاد ناس” عام 1993، تاركة منجزًا غير هيّن من الإبداع والألق والحضور الاستثنائى الفريد، يزيّنه مسلسل وعرض مسرحى و75 فيلمًا هم حصيلة 35 عامًا من التبتُّل والابتهال فى محراب الفن، ليكون تكريمها الكبير فى الدورة الأخيرة لمهرجان القاهرة السينمائى الدولى – المنعقدة خلال نوفمبر الجارى – طوافًا مقدَّسًا حول كعبة فنيّة بهيّة الطلعة والاطّلاع، وتكريمًا للمهرجان والسينمائيين باسم التى تقف على أعراف الكون حارسة لأقواسه المفتوحة على ما لا نهاية عينيها، ولهذا اقتنص المهرجان، إلى جانب التكريم، قبسًا من عَيْنَى نادية لطفى، ليكون – وبعد 35 دورة – قد أصاب أخيرًا مركز الكون، حينما سقط فى عينى صاحبة “النظارة السوداء”.