ثلاث دقّات ويُرفع الستار عن حياة تتشكّل على خشبة المسرح، كتقليد أنشأه الإغريقيون - اليونانيون القدماء - وصار تيمة من تيمات هذا الفن فى أرجاء العالم، هذا الفن الذى يعتصر تجارب الناس وآلامهم، ليعيد إهداءها لهم مكثّفة وعميقة وفنيّة الطابع، فى تواصل حىّ وخلاّق، لا يضع حدًّا ولا يُدشّن فاصلاً بين المسرح وناسه الحقيقيين.
المسرح الذى أتى من مدارج المعابد ليعتلى مدارج العقل، ومن علبة القلب ليعتلى العلبة الإيطالية "خشبة المسرح المغلقة فى شكل حجرة تنقص ضلعًا"، ليختزل تاريخ الوعى والفلسفة، الروح والحسّ، الواقع والخيال، مُعيدًا صياغة الأشياء والمعانى والمواقف والبشر، بما يليق بتجربة حياة تتنفّس وتشيخ وتهرم وتذوى أمام ناظرى شهودها، فى حيّز زمانى ومكانى مشهود، وفى مسيرة المسرح - منذ بدأ طقسًا دينيًّا فى المعابد، ولقاء فرديًّا بين ممثّل واحد وجمهور رحّال، يرتّب بينهما الشارع موعد اللقاء - هناك علامات على طريق "أبو الفنون"، علامات اجتماعية وثقافية وإبداعية وإنسانية أيضًا.
الكاتب الإنجليزى الشهير "وليم شكسبير" هو أحد أكبر وأهم هذه العلامات، الذى عاش كما تعيش عروض المسرح، وغادر كما تغادر، فكان المولد والرحيل فى يوم واحد "23 أبريل"، وإذا تتبّعنا سيرة حياته ومسيرة إبداعه فى مجال الشعر والكتابة للمسرح، سنكتشف ببساطة ـ ودون كبير عناء ـ أننا أمام رجل استحق أن يحظى بشهرة وانتشار يجعلانه أفضل وأهم كاتب مسرحى فى التاريخ على الإطلاق.
* سِتَار انجلترا يرتفع عن وليم
ربّما توقّفت عجلة التاريخ للحظة عند فجر 23 أبريل 1564، متأملة رفع الستار عن دراما الرجل الذى سيغيّر ملامح المسرح، وينقله من أطوار البدائية والتشكّل إلى مراحل النضج والحضارة الحديثة، حتى أنهى مسيرته - وترك تراثه المهمّ للغاية - وترك الستار ينسدل على حياة حافلة بالإبداع والتجاوز، فى مثل يوم مولده 23 أبريل - وبفارق بين التاريخين قدره 52 عامًا، مات عام 1616 - بعد أن قدّم عشرات النصوص المسرحية والقصائد الشعرية والـ "سونيتّات" التى نالت شهرة وصيتًا لم تحظ بهما مثيلاتها فى تاريخ المسرح والكتابة له.
ولد الطفل وليم شكسبير وتربى فى مقاطعة سترادفورد آبون آفون الإنجليزية، وكان والده تاجرًا ناجحًا اسمه جون شكسبير، أدخل ابنه وليم مدرسة المقاطعة المحلية، حيث تعلم اللغتين: اللاتينية واليونانية، وحصل قدرًا كبيرًا من المعلومات والمعارف التاريخية، سواء فى المدرسة أو فى منزل والده، وفى سن الثامنة عشرة تزوج من الآنسة "آن هاتاواى"، وهي إحدى فاتنات ستراتفورد، وكانت تكبره بثمانى سنوات، ومنها أنجب ثلاثة أطفال: سوزانا ـ جوديث ـ هامنت، وبين عامى ١٥٨٥ و١٥٩٢ "المرجح أنه كان فى عام 1587"، انتقل إلى العاصمة لندن، وعمل ممثّلًا وكاتبًا فى شركة "رجال لورد تشامبرلين"، التى عُرِفت فيما بعد باسم "رجال الملك"، وتذكر بعض المصادر التاريخية أنه انتقل إلى لندن هاربًا، بعد أن ضُبِط يسرق غزالة مملوكة لأحد نبلاء المقاطعة، ما اضطرّه إلى الفرار بحياته وحريته إلى العاصمة التى تموج بعشرات الجنسيات، والتى يمكنه الاختباء الآمن فى طيّاتها، ولو إلى حين.
بعد انتقاله إلى لندن بعامين فقط - تحديدًا فى عام 1589 - أصبح مالكًا لمسرح "بلاكفيرز BLACKFRIARS"، أما عن مهنته السابقة فهى غير معروفة على وجه التحديدد، شأنها فى ذلك شأن كل ما يتعلق به من معلومات وتفاصيل حياة، وهو الغموض الذى دفع البعض إلى نفى وجوده من الأساس، ونسب كتاباته إلى مؤلفين آخرين سطّروها بأسماء مستعارة، ولكن فى إطار شخصية وليم شكسبير التى لها ظلال واقعية تؤكّد وجوده، فإن من المحتمل أنه كان يعمل فى مهنة التدريس - وفقًا لخلفيته العائلية وتعليمه الذى تلقاه فى بلدته - وخصوصًا فى ذلك الوقت الذى كان فيه التعليم عملة نادرة.
* وجوه الفنان.. وآثاره
تمّ تناول أعمال وليم شكسبير فى المسرح والسينما، على امتداد جغرافيا العالم وتاريخه، أكثر من أعمال أى كاتب آخر فى تاريخ الإبداع والمبدعين من بنى البشر، فبعد أن رحل عن عالمنا تاركًا وراءه ملحمتين شعريتين و38 مسرحية و158 سونيتة "أغنية قصيرة"، احتفل الفن بتلك الأعمال ووضعها فى موقع الصدارة بين المبدعين والكتاب فى كل العصور، فتمّت طباعتها بكل لغات اللأرض، ووزّعت عشرات الملايين من النسخ، ودرستها عشرات الجامعات والمدارس والكلّيات المتخصّصة، وأُعدَّت عن شكسبير وأدبه مئات الدراسات والرسائل العلمية بكل اللغات تقريبًا.
وقد أطلق رواد المسرح الحديث على وليم شكسبير لقبين مهمّين، هما: "شاعر الوطنية" وذلك بسبب أعماله التى جسّدت كواليس الحكم فى القصر الملكى، فضلاً عن تناوله لملوك انجلترا وأشهرهم فى أعماله "هنرى الرابع"، ولقبه الثانى "شاعر آفون الملحمى"، نسبة إلى ملحمته الشعرية "آفون"، والتيى تحدّث من خلالها عن واقع المجتمع الإنجليزى، وصراع الطبقات الاجتماعية والسياسية فى تلك الفترة الفاصلة بين ظلمات العصور الوسطى ونور العصر الحديث.
وأبرز مسرحيات شكسبير التى عرفها العالم ومثّلها ممثّلون من شتّى أصقاع الأرض: العاصفة ـ العبرة فى النهاية ـ الملك لير ـ أنطونيوس وكيلوباترا ـ بيركليس ـ ترويض الشرسة ـ ترويلوس وكريسيدا ـ جعجعة دون طحن ـ حلم ليلة فى منتصف الصيف ـ ريتشارد الثالث ـ زوجات وندسور المَرِحات ـ سمبلين ـ ضجّة فارغة ـ عذاب الحبّ الضائع ـ عطيل ـ تاجر البندقية ـ مكبث ـ هاملت ـ يوليوس قيصر ـ الملك جون وروميو وجوليت.
* تأثُّره بالعرب وتأثُّرهم به
بتتبع أثر الحضارة العربية على أعمال شكسبير، نجدها واضحة فى عدد من المسرحيات، أهمها: مسرحية عطيل التى تتناول قصة هذا الملك الشرقى الأصل والمنبت، ومسرحية تاجر البندقية التى تتقاطع وحكاية مسرور التاجر وزين المواصف فى ألف ليلة وليلة، وشخصية التاجر اليهودى المرابى الذى واجه نهاية قاسية فى العملين.
وفى مسرحية "العاصفة" لاحظ المتابعون تشابهًا فى أجوائها مع أجواء حكاية جزيرة الكنوز فى ألف ليلة وليلة أيضًا، ووصل الحال ببعض النقاد إلى محاولة الربط بين "الملك لير" وحكاية يونان والحكيم رويان، مستغلّين أن المسرحية والحكاية تدوران حول الوفاء والجحود، وهكذا يبدو أن للحضارة العربية أثرّا بارزًا على أشهر أعمال شكسبير، وحتى تلك التى لم تنل شهرة كبيرة فى مصر والوطن العربى.
بينما على الجانب الآخر، وجد العرب فى أدب شكسبير ملاذًا لهم، يستلهمون منه التجربة والحكمة معًا، فلا يمر عام واحد دون أن نرى على خشبات المسارح العربية معالجات مسرحية حديثة تنهل من الأصل الشكسبيرى، خاصة وأن نصوصه تحوى داخلها قراءات وتأويلات وزوايا رؤية متعددة ومختلفة، كما قدّمت الشاشات العربية العديد من المعالجات السينمائية لأعماله، منها: فيلم "ممنوع الحب" للمخرج محمد كريم "1942"، فيلم "حبك نار" للمخرج إيهاب راضى "2004"، وهما عن رائعته "روميو وجوليت"، وفيلما "المعلمة" للمخرج حسن رضا "1958"، و"الغيرة القاتلة" للمخرج عاطف الطيب "1982"، وهما عن مسرحيته "عطيل"، وكذلك حظيت مسرحيته "ترويض الشرسة" بعدد من المعالجات السينمائية، أهمها فيلما: "آه من حواء" للمخرج فطين عبد الوهاب "1962"، و"استاكوزا" للمخرجة إيناس الدغيدى "1996".
* حوار البطل.. على مسرح الحياة
فضلاً عن أعماله المسرحية الخالدة، وأشعاره التى تُعدّ مدخلاً مهمّا للوعى بقاموس الحياة وأدبياتها، ترك وليم شكسبير عشرات المقولات فى الفن والحياة، والتى تكشف للقارئ فى القرن الحادى والعشرين، حجم وحدود الطبيعة الفلسفية التى تشكّلت من خلالها مُخيّلة شكسبير كرجل أثّر فى كل الأجيال التى جاءت من بعده، وأهم تلك الأقوال:
• الزمن بطىء جداً لمن ينتظر، سريع جداً لمن يخشى، طويل جداً لمن يتألّم، قصير جدًّا لمن يحتفل، لكنه الأبدية لمن يحب.
• الدنيا مسرح كبير، وكل الرجال والنساء ما هم إلا ممثّلين على هذه الخشبة.
• ثمة وقت فى حياة الإنسان إذا انتفع به نال فوزًا ومجدًا، وإذا لم ينتهز الفرصة أصبحت حياته بائسة وعديمة الفائدة.
• يموت الجبناء مرات عديدة قبل أن يأتى أجلهم، أما الشجعان فيذوقون الموت مرة واحدة.
• من خلال أشواك الخطر نحصل على زهور السلام.
• إن الحزن الصامت يهمس فى القلب حتى يحطّمه.
• الشك دائمًا ما يسكن العقل الآثم.
• السمعة أكثر الخدع زيفًا وبطلانًا، فهى كثيرًا ما تكتسب دون وجه حق، وتُفقد دون وجه حق.
• نحن نعرف من نحن، لكننا لا نعرف ما قد نكون.
• استمع لكثيرين، وتكلّم مع قليلين.
• الذئب ما كان ليكون ذئبًا لو لم تكن الخراف خرافًا.
• البعض ترفعه الخطيئة، والبعض تُسقِطه الفضيلة.
• إننا نُعلّم الآخرين دروسًا فى سفك الدماء، فإذا ما حفظوا الدرس قاموا بالتجربة علينا.
• لا تطلب الفتاة من الدنيا إلا زوجًا، فإذا جاء طلبت منه كل شىء.
• الأحمق يظنّ نفسه حكيمًا، لكن الرجل الحكيم يعرف أنه أحمق.
• إذا قابلت الحب وأحببت ثم جُرِحت، لا تسأل لمَا جُرِحت، حتى لا ينتهى عمرك.
• هناك أشياء فى الجنة والأرض أكثر من تلك التى تحلم بها فى فلسفتك.
• أكون أو لا أكون، هذا هو السؤال.
• أيها النوم، إنك تقتل يقظتنا.
* خفوت الإضاءة.. وإسدال الستار
فى عام ١٦١٣ تقاعد الشاعر والمسرحى الفذّ، وعاد إلى مسقط رأسه فى مقاطعة سترادفورد، وكان يبلغ من العمر وقتها ٤٩ عامًا، وذلك بعد أن حقّق المجد الذى لم يخطر حتى على باله ولا على خيال أكثر معارفه تفاؤلاً، وبعدها بثلاث سنوات ترك الدنيا، بعد أن ملأ سمعها وبصرها، ووضع علامته على جبهة التاريخ، كرجل بارز فى قائمة العظماء الذين دوّنوا سطورًا مضيئة فى دفتر حضارة بنى الإنسان، واستطاع أن يتمُل أحلامهم وآمالهم وعصارة إنسانيتهم، ليعيدها إليهم فنًّا حيًّا ونابضًا، وعابرًا للزمن ومُتجدِّدًا فيه.
ولد الطفل وليام شكسبير وتربى فى مقاطعة سترادفورد آبون آفون الإنجليزية، وكان والده تاجرا ناجحا اسمه جون شكسبير، أدخل بنه وليام فى مدرسة المقاطعة المحلية حيث تعلم اللاتينية واليونانية، وحصد قدرا كبيرا من المعلومات التاريخية، سواء فى المدرسة أو فى منزل والده، وحتى ذلك الوقت لم يكن شكسبير الابن ولا حتى الأب يعلمان أن الفتى غريب الأطوار سيصبح أحد أشهر الشخصيات فى تاريخ كوكب الأرض.
فى سن الثامنة عشر تزوج من الآنسة آن هاتاواى وهى إحدى فاتنات ستراتفورد، وكانت تكبره بثمانى سنوات، ومنها أنجب ثلاثة أطفال "سوزانا ـ جوديث ـ هامنت" وبين عامين ١٥٨٥ – ١٥٩٢م "المرجح أنه كان فى عام 1587م" انتقل إلى لندن وعمل ممثلا وكاتبا فى شركة "رجال لورد تشامبرلين" التى عرفت فيما بعد باسم "رجال الملك".
فى عام ١٦١٣م، تقاعد الشاعر والمسرحى الفذّ، وعاد إلى مسقط رأسه فى مقاطعة سترادفورد، وكان يبلغ من العمر وقتها ٤٩ عامًا، وذلك بعد أن حقّق المجد الذى لم يكن يخطر على باله ولا حتى على خيال أكثر معارفه تفاؤلا، وبعدها بثلاث سنوات ترك الدنيا، بعد أن ملأ سمعها وبصرها، ووضع علامته على جبهة التاريخ، كرجل بارز فى قائمة العظماء الذين دوّنوا سطورًا مضيئة فى دفتر حضارة بنى الإنسان.
اللافت فى ذكرى مولده ورحيله للعام الحالى أن شركة إيزى جيت البريطانية للرحلات الجوية احتفلت بتلك المناسبة بأن قامت بعرض عدد من أعمال شكسبير على متن طائرة، على ارتفاع بلغ 3700 قدم، حيث قام ثلاثة ممثلين بتقديم، مختصرات لعدد من أعماله، التى تنوعت ما بين أعمال تراجيدية وكوميدية، وكان ذلك خلال رحلة الطائرة من مطار جيتويك إلى مدينة فيرونا الإيطالية.